ابتسام سليمان.. العاشقة بكل جوارحها | بقلم الكاتب الصحافي خالد جهاد
واحدة من سلسلة مقالات (حكايات فلسطينية)..
لطالما ارتبط اسم فلسطين بحكاياتٍ لا حصر لها، شكلت صورتها في الأذهان على مدار التاريخ وجعلتها أقرب إلى الخيال الذي طغى عليه الحزن والألم، وكما عرفنا الكثير عنها من روايات أجدادنا التي أنارت لنا الطريق وساهمت في تشكيل وعينا تجاه واقعها بمختلف أبعاده، آن الأوان لأصواتٍ مختلفة ومتنوعة بين الماضي والحاضر، لنحكي حكايتها أو لتحكي لنا الحكاية من منظورها وتجربتها الشخصية، بمفرداتها وأسلوبها ومن معايشتها لإنعكاسات وتبعات القضية الفلسطينية عليها في حياتها اليومية كمواطن، سواءاً كان يعيش داخل حدود الوطن المحتل أو خارجه في أي مكان في العالم.. لنتعرف على إنجازاتها وأعمالها ونقرب المسافات ونشهد على ميلاد لحظة، صوت وحكاية..
ويعد وجود الأصوات الفلسطينية من قلب الداخل المحتل اليوم بالإضافة إلى بقية المناطق ذا أهميةٍ كبرى خاصةً بعد محاولات عزلها لعقود بغية فصلها عن محيطها العربي وطمس ثقافتها وهويتها التعددية والحضارية، لذا ستشمل (الحكايات) مختلف التجارب من مختلف المناطق لنمد الجسور بين أبناء الوطن الواحد ومنه إلى بقية دول العالم، وكبداية لسلسلة جديدة من المقالات عن نماذج فلسطينية بارزة في مختلف المجالات ..
وصاحبة حكاية اليوم ليست هنا بصفةٍ فنية فقط بل بصفتها تجسد جسراً بشرياً وعاطفياً بين مختلف المناطق الفلسطينية، هي معلمة ومربية، رحالةٌ هائمة في حب الأرض تجمع بين عشقها للتراث ومواكبة نشاطات الأجيال الشابة لتقدم الصورة والمتكاملة عن موطنها الذي يراه الناس بعيونهم فيما تراه بقلبها، ولتؤكد في كل مرة أن الحياة تليق بهذا البلد وأنها جديرةٌ بحمل اسمه، لها من إسمها نصيب وهي من تنشر الفرح بحماسها الدائم وتوقها إلى كل ما هو أصيل.. العاشقة والمصورة الفلسطينية ابتسام سليمان..
تتميز بشخصيةٍ خاصة وعدسة محبة متقدة بالشغف صنعت لها مساراً يشبهها بين الكثير من الأسماء البارزة في عالم التصوير الفوتوغرافي إن كان ذلك على صعيدٍ وطني أو عربي، فلقطاتها تجمع بشكلٍ عجيب بين البساطة والحرفية التي تجعلها قريبةً من الروح، ونرى تلك الحالة من التماهي بينها وبين المشهد سواءاً كانت خلف العدسة أم أمامها فهي على الدوام جزءٌ منه وليست منفصلةً عنه، كما أن علاقتها مع الأرض تفيض أمومةً وحناناً وانتماءاً لها، عدا عن حماسها الدائم لإكتشاف مناطق جديدة لم تسبقها إليها عدسة ولم تطأها الأقدام من قبل، وعلى عكس الواقع الحزين الذي تعيشه البلاد إلاّ أنها تبحث بإستمرار عن لحظات الفرح كما نقول في لهجتنا العامية (بسراج وفتيلة) لتزيح الحزن عن الأيام التي تمر بصعوبة تحت نير الإحتلال..
وتنسج (ابتسام سليمان) علاقةً حريرية بكل ما حولها لتستنطقه وتحثه على البوح بأسراره الدفينة، ولا تألوا جهداً في قطع المسافات بصحبة فريق (موطني) للتعريف بتاريخ كل منطقة ونقله إلى الأجيال الجديدة بأسلوبٍ جذاب ومشوق لا يخلوا من خفة الظل، فنراهم جميعاً يديرون الحوارات مع أهالي البيوت والقرى ويسألون أصحاب الخبرة وأهل المعرفة ممن كانوا شاهدين على حقبٍ هامة عاشتها مختلف المناطق الفلسطينية بالإضافة إلى الإستزادة من المعلومات حول الآثار التي تؤكد على حياة هذا الشعب وتنوعه الثقافي والحضاري، كما أن جهودهم ساهمت في توجيه الأنظار إلى الكثير من الأماكن المنسية وإعادتها إلى الذاكرة وإحيائها من جديد، ولا تقتصر هذه المساعي والجولات المصحوبة بكمٍ كبير من الصور الفوتوغرافية الجميلة على البيوت والآثار والمعمار بل تمتد لتشمل الطبيعة الخلابة التي تحتفي بها (ابتسام) على طريقتها وتوليها دلالاً من نوعٍ خاص، فإلى جانب تقديم مختلف أنواع المزروعات والفواكه والثمار والنباتات والأعشاب والأزهار التي تحتضنها أرض فلسطين نجدها تقدم من حينٍ لآخر نبذةً عنها وإشارةً إلى الأماكن التي تتواجد فيها عدا عن فوائدها والإستخدامات الممكنة لها، فتعيد إلينا تلك الحكايات التي ورثناها عن أجدادنا عن تلك الخيرات التي يزخر بها وطننا..
ولا تنتهي أسفار (ابتسام سليمان) بل نراها في المدينة إمرأةً مختلفة كلياً فهي جزءٌ فاعل وحقيقي من الحياة اليومية الفلسطينية وواحدةٌ من حارسات التراث الشعبي وكل ما ينبثق عنه، فتجدها بثوبها الفلسطيني في فعالياتٍ ثقافية واجتماعية ووطنية ونسائية لمختلف المناطق، تشارك أهلها أفراحهم وتنقل إلينا طقوس كل منطقة بتراثها الخاص إن كان على صعيد الملبس واللهجة والأغنيات الشعبية والعادات، كما تقدم المصنوعات والحرف اليدوية وتعرف بما تمتاز به كل مدينةٍ وقريةٍ فلسطينية مما يدعم الإقتصاد المحلي ويساعد في التعريف بالإرث المحلي ويحميه من الإندثار وينقله إلى الأجيال الجديدة من الفلسطينيين، ولا شك أن هذا المجهود الجبار والمستمر بشكلٍ يومي لم يكن ليستمر إن لم يكن نابعاً من قلبٍ يعشق وطنه بكل جوارحه ويؤمن بدوره الذي يقوم به على أكمل وجه وبكل محبة ويعطيه نكهةً خاصة تضيف جمالاً إلى جماله..
وبكل بساطة وثقة نستطيع القول أن (ابتسام سليمان) أكثر من مجرد فنانة مبدعة في مجال التصوير الفوتوغرافي وأكثر من مجرد سيدة مجتمع، بل هي وجهٌ أصيل، محبوب، مثقف، متواضع، عابر للثقافات والإختلافات، منتمية بشدة إلى بيئتها ومحبة حقيقية للآخرين فهي فلسطينية من شعر رأسها حتى أخمص قدميها، وواحدة من أهم سيدات الحكايا الفلسطينية التي استطاعت الحفاظ على التراث وتقديمه بأمانة كما قدمت صورةً واقعية عصرية مشرقة عن فلسطين تمسح عن وجنتيها الدموع لترسم محلها.. ابتسامة..
خالد جهاد..
خالد جهاد |